صفقة القرن- من حارة غوته إلى عبرنة الشرق الأوسط

في الصفحة 217 من الترجمة العربية لمذكرات قامة الأدب الألماني، يوهان فولفغانغ فون غوته (1749-1832)، يصف غوته احتفالًا بهيجًا بمناسبة تتويج القيصر. على الرغم من أن التاريخ الدقيق لهذا الحدث لم يُذكر صراحةً، إلا أن السياق يشير إلى أنه وقع في سبعينيات القرن الثامن عشر، عندما كان غوته في العقد الثاني أو الثالث من عمره.
لقد استلهمت هذه الفقرة على وجه الخصوص لأهميتها في تسليط الضوء على مكانة اليهود في المجتمع الأوروبي خلال القرن الثامن عشر – عصر التنوير. يقول غوته: "عشية الانتخابات، مُنع الأجانب من دخول المدينة، وأُغلقت الأبواب بإحكام، وأُجبر اليهود على البقاء داخل حيهم. أراد مواطنو فرانكفورت المعتزون بأنفسهم أن يشهدوا هذا الاحتفال المهيب بمفردهم".
خطوة إلى الخلف
ما لفت انتباهي بشكل خاص في هذا المقطع هو عبارة "وأُجبر اليهود على البقاء داخل حيهم". يكشف هذا عن عرف راسخ: استبعاد اليهود من الحياة العامة وحصرهم في أحياء خاصة بهم. يذكر غوته هذا الاحتجاز أو العزل، أو هذا الترتيب الاجتماعي الدوني، كما لو كان أمرًا طبيعيًا ومقبولًا، دون أدنى تفكير في التساؤل عنه.
اخترت الاقتباس من غوته بالتحديد لأنه يمثل النموذج الأوروبي المثالي، بل وحتى مثالًا للإنسان المتسامح. في الصفحة 194 من نفس المذكرات، يصف نفسه بطيبة الفطرة، وهو وصف دقيق. يقول: "لقد منعتني طيبتي الفطرية من الاستمتاع الحقيقي بمثل هذا الخداع القبيح".
حارة اليهود في فرانكفورت في نهاية القرن الثامن عشر تجسد ظروف ومكانة اليهود في أوروبا قبل قرن من الزمن من إطلاق الحركة الصهيونية.
ثم، منذ بداية الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا، شهدنا أحد أعمق وأخطر التحولات في التاريخ الحديث: تحول اليهود من عزلة الحارة المظلمة والمهمشة إلى آفاق العالم الرحبة والمؤثرة. انتقلوا من قيود جدران الأحياء اليهودية في المدن الأوروبية إلى انتشار واسع النطاق، ليس فقط في صلب النظام العالمي، ولكن أيضًا في نسيج الحضارة ذاتها. لم يعودوا مجرد قوة مالية هائلة، بل أصبحوا، على مدار القرون الثلاثة الماضية، بناة للحضارة المعاصرة. لقد باتت إسهاماتهم في العلوم والآداب والفنون حجر الزاوية في صرح الحضارة الحالية. نجح اليهود في التحرر من قيود الحارة والانخراط في الحضارة، والانتقال من العزلة إلى الانتشار، ومن التهميش إلى التأثير الفاعل.
من هذا المنظور، فإن المشروع الصهيوني، الذي يهدف إلى تجميع اليهود في فلسطين، لا يمثل أفضل ما أفرزه العقل اليهودي المعاصر. بل هو خطوة إلى الوراء، وعودة إلى عزلة الحارة. قد يبدو ظاهريًا كعودة إلى أرض الميعاد، ولكنه في جوهره تجميع جديد ينتظر تشتتًا جديدًا.
صفقة خاسرة
إن المشروع الصهيوني ليس سوى صفقة خاسرة في سجل التاريخ، صفقة لن تحمي الذاكرة اليهودية من أهوال التدمير الأول للهيكل عام 587 قبل الميلاد على يد البابليين، ثم التدمير الثاني على يد الرومان عام 70 بعد الميلاد. بعد ستة وأربعين عامًا من الآن، أي في عام 2070، سيكون قد مضى عشرون قرنًا على انتشار اليهود في أصقاع الأرض دون دولة يهودية خاصة بهم. ربما حينها ستعلو أصوات الحكماء منهم قائلين بأن أوضاعهم كانت ستكون أفضل لولا هذا المشروع الصهيوني، وبأن دولة يهودية عنصرية منغلقة لن تكون أكثر من حارة محاطة بخصوم وغرباء، في انتظار الحماية من عواصم أوروبا.
بعد ما يزيد قليلًا عن عشرين عامًا على صدور وعد بلفور المشؤوم، أدرك الساسة البريطانيون أن المشروع الصهيوني، بمعنى إقامة دولة يهودية، هو صفقة خاسرة. لهذا حاولوا إعادة تفسير الوعد ليصبح مجرد حق في الهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها بأعداد لا تضر بحقوق سكانها الأصليين. ولهذا السبب، تحدث الكتاب الأبيض الصادر عن الخارجية البريطانية عام 1939 عن "دولة فلسطينية، لا عبرية ولا عربية". وقد رفض هذا الاقتراح كل من العرب واليهود، ثم تخلت بريطانيا عن الفكرة مع اندلاع أتون الحرب العالمية الثانية.
حارة اليهود، كما تم تصويرها في مذكرات غوته، هي خلاصة لتاريخ اليهود في أوروبا المسيحية. هنا أقتبس من الفيلسوف البريطاني الشهير برتراند راسل (1872-1970) في الصفحة 30 من الترجمة العربية للجزء الثاني من موسوعته "تاريخ الفلسفة الغربية". يشرح راسل موقع اليهود في الحضارتين المسيحية الأوروبية والإسلامية العربية في العصور الوسطى، مشيرًا إلى إسهاماتهم في الفلسفة والفكر والثقافة. يوضح أن الاضطهاد الأوروبي منعهم من المساهمة في هذه المجالات، بينما كان التسامح العربي حافزًا لهم للإسهام في الحضارة الإسلامية. يقول راسل، والترجمة للدكتور زكي نجيب محمود (1905-1993): "لم يكن لليهود خلال العصور الوسطى نصيب في ثقافة الأقطار المسيحية، إذ بلغ اضطهادهم حدًا من القسوة بحيث لم يتمكنوا من إضافة نتاج جديد إلى نتاج المدنية، بل كانوا يوفرون رؤوس الأموال لبناء الكنائس فقط".
ثم يضيف: "لم يلق اليهود معاملة رحيمة إلا بين المسلمين، ولذا استطاعوا، في العالم الإسلامي، أن ينصرفوا إلى الفلسفة وضروب الفكر المستنير. كان المسلمون، خلال العصور الوسطى، أكثر تحضرًا وأرق قلوبًا من أوروبا المسيحية، فقد اضطهد المسيحيون اليهود، وبخاصة في عهود الاضطراب المدني، كما أن الحروب الصليبية رافقتها مذابح مروعة ضد اليهود، وذلك على نقيض ما كان في البلاد الإسلامية، حيث لم تصدر إساءة من أحد في معاملة اليهود بأي معنى من معاني الإساءة. وكان لليهود، في الحضارة الإسلامية، نصيب في الإنتاج العلمي، خصوصًا في إسبانيا العربية".
صدام وجودي
يختتم راسل بالقول: "ظل اليهود، بعد العصور الوسطى، يسهمون بنصيب كبير في المدنية باعتبارهم أفرادًا، لكنهم لم يعودوا يشاركون في المدنية بنصيب باعتبارهم جنسًا". انتهى الاقتباس. أردت من هذا الاقتباس أن أؤكد على معنى هام: نحن، في الحضارة العربية الإسلامية، لم يكن ولن يكون لنا موقف عدائي من اليهود كيهود أو كشركاء معتبرين في الحضارة الإنسانية. ولكننا، مثل العديد من الشرفاء اليهود، نرفض المشروع الصهيوني ونعتبره صفقة خاسرة لا مستقبل لها في نهاية المطاف.
نحن لسنا في صراع مع العقل اليهودي، فهو مكون أصيل في نسيج الحضارة المعاصرة. نحن في صراع وجودي مع المشروع الصهيوني، ليس فقط كفلسطينيين، بل كمجمل أهل هذه المنطقة من فرس وأكراد وعرب وأتراك وأمازيغ وأفارقة على اختلاف دياناتهم. حتى يستقر المشروع الصهيوني، وحتى لا يفاجأ كما فوجئ في 587 قبل الميلاد، ثم كما فوجئ في عام 70 بعد الميلاد، بدمار أو زوال أو تشريد أو سبي أو شتات ثالث، فإنه يحتاج إلى أحد الخيارين، وكلاهما مستحيل: إما إفناء الشعب الفلسطيني على مهل، وربما على قرون متتالية من الزمن، وإما عبرنة هذه المنطقة العربية الإسلامية بكاملها، أي خلق وتشكيل وصياغة شرق أوسط عبري بقيادة عبرية وخرائط عبرية وثقافة عبرية.
العقل العبري، بطبيعته، عقل ألفي، تنقل بين ما يقرب من أربعة آلاف عام، في رحلة لم تكن سعيدة ولا مريحة بأي حال من الأحوال، رحلة كفاح مستمر من أجل البقاء بين أمم معادية. وهو عقل منظم ومخطط، يتمتع ببعد النظر، وكثير الشك، وشديد الحذر، وقليل الثقة، ويخاف بشدة من تقلبات الزمن. لذا، لا يعرف الارتجال ولا يترك مصائره للمصادفات ولا يتخذ قراراته بشكل عشوائي.
ثم إن هذا العقل العبري، في القرنين التاسع عشر والعشرين، قد حقق من الانتصارات ما يكفيه ليمتلئ بالغرور والزهو والغطرسة. فأمريكا تحكم العالم، بينما هم يحكمون أمريكا، أو على الأقل لهم كلمة نافذة في اختيار من يحكمون أمريكا، سواء في البيت الأبيض والبنتاغون – أقوى قلاع الحرب وحصون السلاح في التاريخ – أو في الكونغرس.
عبْرنة الشرق الأوسط
لقد شهدنا بالفعل موجتين من عبرنة الشرق الأوسط: الأولى بدأت بعد اتفاقات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، ثم الثانية مع موجة الاتفاقات الإبراهيمية وتطبيع العلاقات، علنًا أو سرًا، مع عدد جديد من الدول العربية. كانت العبرنة تسير في طريقها لولا الحرب الصهيونية المدمرة ضد المقاومة والشعب الفلسطيني بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
إن عبرنة الشرق الأوسط ليست مجرد خيال، بل لها تعبير رمزي يشير إليها. في الصفحة 305 من مذكرات إسماعيل فهمي (1922-1997)، وزير خارجية مصر بين عامي 1973 و 1977، نقرأ أنه كان بصحبة الرئيس أنور السادات (1918-1981) في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 1977، في زيارة شملت رومانيا والرياض وطهران. كانت زيارة رومانيا بناءً على دعوة من رئيسها نيكولاي تشاوشيسكو (1916-1989)، الذي وجه الدعوة إلى السادات عقب لقاء جمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن (1913-1992). طلب بيغن من تشاوشيسكو التوسط لدى الرئيس السادات، وأكد بيغن أنه جاد ولديه عزم حقيقي على عقد معاهدة سلام مع مصر، ولهذا السبب يريد الالتقاء بالسادات.
هنا يروي وزير الخارجية إسماعيل فهمي في الصفحة 305 من مذكراته "التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط" – الصادرة عن دار الشروق – نقلًا عن الرئيس الروماني: "إن بيغن أطلع تشاوشيسكو على خطط للسلام في الشرق الأوسط مُرفقة بخرائط مكتوب عليها أسماء جميع المدن والمناطق في الشرق الأوسط باللغة العبرية". انتهى الاقتباس.
الرحلة الزمنية بين الخرائط العبرية في أكتوبر/تشرين الأول 1977، ثم اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، ثم اتفاقية أوسلو عام 1993، ثم اتفاقية وادي عربة عام 1994، ثم الاتفاقيات الإبراهيمية عام 2020، هذا هو الجزء الحي الظاهر في الذاكرة العربية المعاصرة. لكن عبرنة الشرق الأوسط هو طموح صهيوني يسبق كل هذه التواريخ، بل يسبق تأسيس الدولة الصهيونية ذاتها.
مشروعان متلازمان
في الصفحة 461 من كتاب المؤرخ المصري القدير الدكتور أحمد عزت عبد الكريم (1908-1982) "دراسات في تاريخ العرب الحديث"، نقرأ أن بريطانيا في ختام عام 1946 ومطلع عام 1947: "قامت بمجهود لحل القضية الفلسطينية حلًا يرضى عنه العرب واليهود، فوجهت الدعوة إلى العرب واليهود إلى مؤتمر لهذا الغرض في لندن. وفي الدورة الأولى من المؤتمر، أعلن المندوب المصري – للأسف لم يذكر المؤرخ اسمه – أنه طالما أن اليهود يصرون على إقامة دولة يهودية مستقلة في فلسطين، وطالما أنهم يعتبرون ذلك أمرًا مفروغًا منه، وطالما أنهم يرفضون حضور هذا المؤتمر لهذا السبب، فلا أمل في حل القضية حلًا عادلاً".
ثم يقول الدكتور أحمد عزت عبد الكريم إن المندوب المصري تنبأ في ذلك الوقت المبكر من خواتيم عام 1946 بمخططات الصهيونية حين قال: "إن اليهود، بعد إنشاء دولتهم، سيبدؤون في الوثوب على المنطقة العربية المجاورة، وربما على البلاد العربية المجاورة". ثم يذكر "أن العرب اقترحوا في سبتمبر/أيلول 1946 مشروعًا عربيًا لحل الصراع ينص على إقامة دولة موحدة ديمقراطية نيابية في فلسطين يتمتع فيها المواطنون على اختلاف دياناتهم بكافة الحقوق". انتهى الاقتباس.
لم تكد الحرب الأولى عام 1948 تضع أوزارها، وكان تهجير الفلسطينيين بالقوة يجري على قدم وساق، حتى كانت مشاريع عبرنة الشرق الأوسط تتحرك من وراء ستار. حتى إنه في ديسمبر/كانون الأول 1948، أي بعد أشهر قليلة من إعلان تأسيس الدولة الصهيونية في 15 مايو/أيار 1948، كانت مشاريع السلام الصهيونية معروضة على مكاتب عدد من الحكام العرب والمسلمين في الشرق الأوسط.
ليس صحيحًا أن الأمر بدأ مع السادات وبيغن. العبرنة جزء أساسي من صلب المشروع الصهيوني منذ بدايته الأولى. فبعد ثلاثة عشر شهرًا من صدور وعد بلفور المشؤوم في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1917، التقى من كان يمثل العرب في ذلك الوقت، الأمير فيصل بن الحسين (1883-1933)، الذي وعدت بريطانيا والده الشريف حسين بدولة عربية مستقلة، ثم غدرت به في اتفاقية سايكس بيكو، مع حاييم وايزمان (1874-1952)، الذي تلقى وعد بلفور عام 1917، وأصبح أول رئيس لدولة إسرائيل. صدر عن الزعيم العربي والزعيم الصهيوني بيان مشترك في باريس في 3 يناير/كانون الثاني 1919، وتضمن البيان موافقة الأمير فيصل على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد وظفت الدعاية الصهيونية هذا البيان لخدمة أغراضها.
الصهيونية منذ يومها الأول لديها مشروعان متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر: حيازة الأرض وطرد الشعب الفلسطيني، ثم عبرنة المحيط الإقليمي، وإضفاء طابع عبري على المنطقة، كما كشفت خرائط بيغن مع تشاوشيسكو في رومانيا في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 1977، قبل أيام قليلة من زيارة أول رئيس عربي للقدس في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1977.
الحديث مُستكمل الخميس المقبل بمشيئة الله تعالى.
